ملف| المبدعات السوريّات والكتابة في مواجهة العنف

Published on 29 July 2021 at 13:10

 

من ستكتبُ اليوم؟ من أين أبدأ وأنا مجموعة نساء، سؤال وجّهته إلى نفسي قبل البدء بكتابة هذه الشهادة، لعلّي أنجح في ضمّ أصواتهنّ جميعًا على اختلاف لغاتهنّ. هنّ شخصيّات خلقها الانتقال بين بلدان وبيئات متعدّدة، مرّة بسبب الهجرة وأخرى بسبب اللجوء. أصواتٌ خلقها الرفض للواقع وللعنف وأيضًا الرغبة في الاكتشاف ومحاولة إثبات الذات. الكتابة كانت الفعل الوحيد القادر على إعطاء كلّ تلك  الأصوات حقّها ومنحها مساحات للتعبير
أكتب مذكّراتي يوميًّا، لأوثّق حالتي في الزمان والمكان، ولأتذكّر الأحداث التي صنعت مني المرأة الحاليّة. هي وسيلتي لتفنيد الألم وإخراجه منعًا من أن يتحوّل لـِ “أنفاق مظلمة”، وهو التعبير الذ استخدَمَته الكاتبة التركية إليف شفق، لوصف تعدّديّة شخصيّاتها محاولةً الولوج إليهنّ حيث تقبعن في كهوفهنّ ومحاورتهنّ

مثّلت الكتابة بالنسبة إليّ آليّة الدفاع الأولى عن كياني وعن ذاكرتي، خلال رحلة التحوّل واجتياز الجدار الصلب الذي يحاوطنا نحن النساء منذ الطفولة، لأنّنا غالبًا ما نخوض حروبنا فرادى، إذ نعلم بأنّه لا يمكن لنا الإبقاء على علاقتنا بالمجتمع الذي تمرّدنا على أعرافه، ولأنّ كلّ انسلاخ عن النظام بالضرورة يعني الانعزال عنه، هكذا تصبح الكتابة مرّات الرفيق الأساسي الأقرب للمرأة في دربها

خبرتُ الكثير من الأحداث، واطّلعت على تجارب مشابهة لتجربتي في هذه السنوات الأربع، لكنّ أكثر ما لفت نظري هو حال النساء الذي يتقاطع ويتشابهُ غالبًا في جميع البلاد مع اختلاف النّسب، ووجدت نفسي أستحضر مشهدًا من ذاكرتي، خلال عامي الأوّل في بلد اللجوء: “الشريك الصامت” عبارة كُتِبت على كرسيّ في مطعم وسط مدينتي في ولاية نيويورك، حيث أعمل، الكرسيّ مُخصّص للسيّدة “باتريشيا” زوجة المالك، التي لا يُسمح لها بالتدخّل بمجرى العمل، تأتي يوم السبت وتتولّى الحسابات ثمّ تنهي عملها وتذهب. تخيّلتُ العبارة كأنّها رباط موضوع على فمها، كنوعٍ من أنواع العنف ونزع السلطة المُتعمّد. لكن إذا استثنينا الفترات المُتقطّعة التي يَتخلّى فيها الرجل طواعيّةً عن سلطته، وغالبًا لأسباب عاطفيّة يستعيدها عندما تنتفي تلك الأخيرة، أليست المشكلة في اعتقاده أنّه هو صاحب السلطة المطلقة؟ ألّا يفعل هذا بوعي تامّ يخبرهُ بأنّه المتحكّم والقادر على منح السلطة واستعادتها متى شاء؟ الوعي المبكر بالسلطة لدى الرجل يُكوّن النواة الأولى للعنف الذي يُمارسه على المرأة. ووعي المرأة لذلك منذ الطفولة يُكوّن لديها نوعًا من الاستسلام اللاواعي للواقع الذي يعمل المجتمع الأبوي على تكريسه قبل أن تُقرّر لاحقًا الثورة عليه وانتزاع حقّها

:الكتابة والعنف

الكتابة بوصفها فعلًا تَحرّريًّا تشكّل العدو الأوّل لكلّ سلطة، سواء كانت سلطة الأب أو الزوج أو الحاكم، فانتفاء التبعيّة التي تُحدِثها الكتابة عند المرأة يَستفزّ شخصيّة المُعَنّف، إذ يشهد انفلات المرأة من سيطرته وعدم قدرته على التحكّم المطلق فيها، التحكّم الذي غالبًا يكون منشؤه البدئي جنسيًّا بحتًا، يتأتى في الأصل عن الرغبة الجنسيّة المُتطلّبة لدى الرجل التي تدفعه للبحث عن سبلٍ للسيطرة الجسديّة على المرأة ثمّ على كيانها ووجودِها. من هنا أيضًا، انطلقت جميع التحريمات التي يُحاصِر فيها رجال الدين المرأة وتدعمهم فيها التقاليد والأعراف المجتمعيّة التي تُعدّ شكلًا من أشكال العنف الاجتماعي، إذ كيفَ يُعقلُ أن تنتهي فتاة في مقتبل العمر إلى السجن، لمجرّد أنّها تنشر صورًا أو فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين يُخلى سبيل مجموعة من المتحرّشين الذين اعتدوا علنًا على فتاةٍ أخرى يُتابعون أيضًا ما تنشره على حساباتها الشخصيّة، كيف يمكن أن تُقتل الفتيات والنساء، بحجّة أنهنّ مَسسنَ بشرف الرجال “المطاط”، أليسَ هذا عيبًا قاتلًا في القانون؟

 

القانون الذي ما زال في عالمنا العربي يتجاهل كيان المرأة وحقوقها، وكما نعلم فإنّه، منذ عشرينيات القرن الماضي بعد أن كانت الحركة النسويّة في أوجها حتّى هذا اليوم، لم تدخل حقوق المرأة في القانون، وإذا لم يحدث هذا فسيظلّ نضال المرأة مجرّد امتيازٍ فردي مثله مثل أيّ نجاح فردي تكسبه المرأة كاجتهاد شخصي. لكن بالمقابل أليس التعامل مع العنف على أنّه مسؤوليّة الرجل الفرد وحده هو رؤية منقوصة للوضع العامّ في المجتمع السوري خصوصًا، والعربي بشكلٍ عامّ؟ إذا ما تخيّلنا هرم الهيكلية القائمة فيه على الشكل الآتي: القانون غير المكتمل والقائم على الشريعة الإسلاميّة، رجال الدين وحرّاس التقاليد الذين يكيلون بمكيالين، ويُنصفون جنسًا على حساب آخر، فتتكوّن لدينا عقليّة تقليديّة متحجّرة تُكرّس الراهن بثنائيّة جنسٍ متفوّق بالحقوق وجنس مقهور، تفوق الجنس الذكوري سيُولّد عنفًا منفلتًا من قبل الذكور تجاه المرأة لا يعبأ لأيّ قانون، لأنّه بالأصل غير حاضر لردعه مع مظلوميّة حانقة لا تنطفئ من قبل الجنس المقهور أي المرأة. ألا يمكن أن نضع موضع النقاش أنّ إعادة هيكلة تراتبيّة السلطة في مجتمعنا يمكن لها أن تزيل عبء تهمة العنف عن الرجل، وأن تُحرّره من منظار النظرة الدونيّة له من قبل المجتمع، إن هو لم يثبت رجولته بالمعيار الذي تقيد فيه هذه المنظومة أفعاله؟ ولا سيّما بعد الثورة والتغيّر الذي طرأ على الوضع العامّ وانتقال المرأة بشكلٍ تراجيدي لتتولّى أمورها، بعد فقدان المعيل من دون وجود وسائل تمكين مسبقة أو مصدر دخل. وذلك لا يعني بالضرورة زوال العنف إنّما تفكيك مغذيّاته ومفاهيمه في سبيل الحدّ من عنفٍ مستقبلي ممكن الحدوث.

ربّما كان وضع المرأة الكاتبة في المهجر أفضل من مثيلاتها في الوطن؛ لأنّ القوانين السوريّة ما زالت عاجزة عن منح المرأة الأمان اللازم للإبداع. لكن هل حقًّا بإمكاننا أن نتحدّث عن تغيير في وضع المرأة ضمن منظومة كلّيّة ظالمة، ضمن دكتاتوريّة البَعث السائدة منذ ما تعدّى الخمسة عقود؟ أليس هذا نوعًا من الشطح؟ وكيف للتغيير أن يحدث دون أدوات وهيئات وقوانين ناظمة؟ وإن كان هناك مستقبل لسورية الدستور والقانون، فلا بدّ من أدوات لتمكين المرأة ومن قانون يحمي حقوقها كاملة، ويعطيها امتيازات إضافيّة يفترض أن تُطبّق بالتزامن مع ملفّات إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد والمجتمع. فالنساء -كما تصفهنّ الكاتبة والناشطة النسويّة أليسا غارسيا*- “غِراء المجتمع الذي يجمع أجزاءه المتناثرة”.

أنا امرأة سوريّة شاهدة على عنف مجتمعي، وشاهدة على عنف المجتمع الفنزويلي والأميركي، وضمن هذه المجتمعات، أستطيع القول إنّ الخوف هو صديق المرأة الأزلي، نحن النساء نخاف من كلّ شيء، من الشوارع والجيران الغرباء وسائق الأوبر، الخوف دافعه جنسي أيضًا. نخاف أن نُمسّ، نخاف أن تغلبنا القوّة الرجوليّة، نخاف على بناتنا من الاختطاف والاغتصاب، نخاف لأنّ الخوف زُرِع فينا منذ أن خبِرنا لمسات التحرّش الأولى ونحن طفلات صغيرات، العالم ليس مكانًا آمنًا للأنثى، هذه العبارة الأولى التي تُبنى عليها حياة الأنثى. نحن نهرب من المجتمع الذكوري، لأنّنا نريد التخلّص من ذاك الشعور القاتل الذي يَنخر عميقًا، ويدفع الأنثى للاستسلام والخضوع، لكونه يحاصرها ويقمع محاولاتها بالإفلات منه. تخيّلت يومًا المجتمع كيَدٍ كبيرة تعصر جسدي، كان ذلك الحلم حقيقيًّا لدرجة الكابوس. هذا -بكلّ أسف- ليس محصورًا بمجتمعنا العربي، بل يحدث على مستوى العالم، وقد سبق أن تطرّقت له جيرمان غرير، في كتابها «المرأة المخصيّة»، إذ تذكر أنّ “معظم النساء في العالم خائفات ويُثقل الدين كاهلهنّ بكلّ أنواع القيود، وما زلن مقنعات ومُكمّمات ومشوّهات ومضروبات.

كتاب «المرأة المخصيّة» لا يتناول النساء الفقيرات، بل نساء العالم الغني الذي ترى الفقيرات ظلمه حرّيّة.
عند هذه النقطة بالذات، أصل إلى فكرة “ما جدوى الكتابة إذن؟” وتحضرني صورةٌ للفتاة البريطانيّة “سارة” التي اختطفها رجل شرطة واعتدى عليها ثمّ قتلها. لكن ماذا عن دور الكتابة في الحياة الجمعيّة؟ هل حقًّا أثبتت قدرتها على التغيير في المجتمع؟ هل حقّق وضع المرأة ثورة؟ وأيّ شريحة تحقّق لها ذلك؟ أيّ تغيير طرأ على وضعها؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه. فنحن إذا ما نظرنا إلى وضع المرأة في المناطق التي نشأت فيها في قرانا السوريّة البعيدة، نجد أنّ الكتابة أو أيّ حالة إبداعيّة وليدة أخرى لديها عجزت حتّى اليوم عن التأثير في الحالة العامّة في مجتمعاتنا، إنّما خلقت شريحة محدودة من النساء الواعيات للواقع، إذ أصبحَ لديهنّ وعي بالوضعِ غير المنصف للمرأة وواقع قائم ومستمرّ الحدوث، وبينهما يقف القانون عاجزًا عن تحقيق الرؤية المناسبة والمنصفة لانحيازه إلى الشرائع والدين والعادات والتقاليد التي يَسنّها الرجل. لنتخيّل، كما فعلت جوكندا بيلي -مثلًا- في روايتها «بلد النساء»، أنّ حدثًا سحريًّا ما حدث بين ليلة وضحاها، عطّلَ فعل الرجل الجنسي واستلمت المرأة زمام الأمور والسلطة لفترة، ماذا يا ترى ستغيّر النساء في هذا العالم؟ ما هو أوّل شيء يخطر ببال المظلوم، إن صار مكان الظالم؟ لن ندّعي طرح فكرةٍ أفلاطونيّة هنا، بل فكرة إنسان عادي عايَن ظلم المُجتمع والقانون لقرون. أليس من حقّنا أن نجلس على عرش المجتمع كما يفعل الرجل منذ آلاف السنين؟ ألا يحقّ لنا أن نمتلك عشّاقًا وعشيقات كما يفعل؟ ألّا تصبح العصمة في يدنا فنُطلّق متى شئنا؟ نعم سيكون هنالك أخطاء فرديّة، كما هي الآن عند الرجال، ولسوف نجد امرأة تحبس زوجها في البيت كي لا تراه نساء فيخطفن قلبه، وسنرى أخرى تقتله وعشيقته على سريرها، وسنرى من تعاقبه، لأنّه أسرف في الشراء، ومن تفرضُ عليه تغطية الرأس.

ماذا تشعرون الآن، أيها الرجال، وأنتم تقرؤون؟ ألا تشعرون بالتقزّز؟ ألا تشعرون بأنّكم أقرب للحيوانات الأليفة؟ هذا ما نشعرُ به كنساء، ما زلنا في طور الدفاع عن أحقّيّتنا بأن لا نكون مملوكات للغير، لم نتجاوز بعد كوننا مدافعات عن حقّنا، لم نُمنَح بعد أيّ قاعدة تمنحنا السلام جزئيًّا، لذلك فالكلام عن التغيير سابق لأوانه لأنّه يأتي بعد تغيير حقيقي على مستوى المفاهيم الأساسيّة، على مستوى الأفراد، ثمّ ليصبح مفهومًا جمعيًّا، وهذا طريق طويل وشاقّ، وعلى الرجل أن يكون واعيًا لدوره الأساسي فيه.

يحضرني ما ذكرَته الكاتبة إليزابيث جيلبرت، في كتابها «حب قراءة وصلاة»، عن تنازلها الكامل عن حقوقها الزوجيّة لصالح زوجها، في سبيل منحها الطلاق لكنّه رفض، بل طالبها بريع كتبها التي أصدرتها خلال سنوات الزواج، إلى هذا الحدّ التشابه في وضع المرأة حقيقي في كلّ مكان، مهما كانت طبقتها الاجتماعيّة أو خلفيتها الثقافيّة، مع اختلافات طفيفة في قدرة المرأة على التعامل مع الأزمات، من حيث قدرتها المادّيّة ومستوى الدعم الذي تتلقّاه من مجتمعها. ومن هذا المنطلق، يُعدّ المجتمع العربي مجتمعًا قاتلًا من الدرجة الأولى؛ إذ إنّه يتصدّى بشراسةٍ لكلّ امرأة تُحاول الإفلات من مِقصلة العادات وإطار النظام الأبوي. لكنّ الغاية أن ينتفي النظام الأبوي، وأن يعمل على تحقيق ذلك المرأة والرجل معًا، إذ لا سبيل لذلك دون تعاون الرجل، لكن أين هم هؤلاء الرجال المستعدّون لذلك، فالنساء يعقدنَ المؤتمرات ويصدرنَ البيانات ويطبعنَ الكتب ويناضلنَ، بينما الرجل جالس على عرشهِ بإقرار المجتمع، عندما يُقرّر الرجال التنحي؛ يبدأ الحلّ ويمكن لنا أن نتحدّث عن دور المرأة، كما تقول إيريكا يونغ، في كتابها «الخوف من الخمسين»، “إنّ معركة نيل المرأة لحقوقها لم يفُز فيها أحد بعد، والمرأة لا تدرك مدى مكر الفخاخ الأبويّة إلى أن تتمرّس قليلًا، وهذا لا يتحقّق إلّا إنْ كانت المرأة واعية حقًّا للجزء منها الذي يتخلّى عن سلطتهِ للرجل”

Add comment

Comments

There are no comments yet.